التقط وردة حمراء بخفة و سرعة من وسط تلال الأزهار التي جمعها أصحاب المشاتل تمهيدا لحرقها للتعبير عن غضبهم من منع قوات الاحتلال لهم تصديرها خارج قطاع غزة , نظر حوله ليتأكد أن أحدا من هؤلاء المزارعين الغاضبين لم يلمحه , ثم خبأها تحت قميصه , و عاد لمتابعة العمل مع بقية المزارعين في تكديس أكوام الزهور فوق بعضها , عمل بهمة و نشاط زائدين كطفل ارتكب ذنبا ثم تظاهر بقيامه بعمل آخر ليقنع من حوله أنه لم يرتكب تلك الخطيئة التي توجب إيقاعه في العقاب .
من بين تلك الجموع الغاضبة تقدمت نحوه تحث الخطى , كانت ترغب بالحديث إليه دون غيره , لم ينتبه لها , استمر بتكديس الزهور , حين وصلت إليه كانت تقف خلفه , أمسكته من كتفه و قالت :
(( مرحبا ))
التفت إليها ثم نظر إلى المصور الذي كان يرافقها, إنهما مراسلان تلفزيونيان, فرح لذلك, سيعبر عن غضبه أمام العالم أجمع, ألقى بحزمة الزهور التي بيده وقال لها:
(( أهلا ))
نظرت إلى المصور لتتأكد من تشغيل الكاميرا و بدء التصوير ثم بدأت حديثها مع يحيى:
(( لماذا تنوون إحراق كل هذه الزهور ؟ ))
(( وماذا نفعل بها ؟ سلطات الاحتلال تمنعنا من تصديرها خارج القطاع , نحن نعبر عن غضبنا , لم يكتفوا باحتلال أرضنا , بل إنهم يصادرون لقمة عيشنا , انقلي للعالم كله ماذا يجري هنا , إنهم يحاربون الإنسان و الشجر والزهر , نحن نعاني كثيرا ))
(( هل لي أن أسألك سؤالا شخصيا ؟ ))
(( تفضلي ))
(( هل أنت متزوج ؟ ))
(( لا ))
(( ألا يوجد بحياتك فتاة ما تنتظرك لتهديها وردة في عيد الحب الذي يصادف اليوم ؟))
احمرت وجنتاه , ثم نظر إلى عدسة الكاميرا و قال لها
(( لا , لا يوجد ))
(( إذن لمن خبأت تلك الوردة الحمراء تحت قميصك ؟))
لقد لمحته و هو يرتكب ذنبه , فممنوع على الإنسان في هذه الأرض أن يحب أو أن يعبر عن حبه , بالتأكيد لديه معشوقة , ولكنه لا يستطيع أن يعبر عن حبه لها أمام عدسات الكاميرات , نظرت المراسلة إلى المصور و طلبت منه إطفاء الكاميرا ثم قالت ليحيى :
((لمن ستهدي هذه الوردة ؟))
(( سأهديها لابنة جيراننا, اليوم سأزورها برفقة أهلي لطلب يدها, و سأهديها هذه الوردة خفية و بعيدا عن عيون الأهل, أنا أحبها منذ عامين, اليوم هو عيد الحب, رغم عدم اقتناعي به, إلا أنها أصرت أن أتقدم لخطبتها في هذا اليوم ))
ثم التفت لناحية المصور الذي كان يستعد للبدء بالتصوير ثانية و قال له
(( لا تصور!! ))
ابتسمت المراسلة, و قالت له:
(( لا تخف, سنصور الزهور تلتهمها النيران, لقد أحرق زملاؤك الزهور ))
التفت المراسلة إلى عدسة الكاميرا ليبرز وجهها و قد انعكست لفحات النيران على وجهها و ختمت تقريرها قائلة
((في هذه البقعة من الأرض, حتى الأزهار تمنع من أن ترسم بهجتها و نضارتها على أديم الحياة و لو ليوم واحد))
بعد انتهائها من تقريرها الصحفي خطرت ببالها فكرة , لم لا ترافق يحيى و أهله في زيارتهم لبيت جيرانهم أثناء طلبهم ليد بيسان , وهو اسم حبيبته التي يتلهف للزواج منها , ستنقل للعالم كيف يحتفل الناس بأفراحهم هنا, تحت قصف الطائرات وأزيز المدافع , ثم ستطلب من يحيى في نهاية التقرير أن يهدي بيسان تلك الوردة التي خطفها بخوف , عرضت على يحيى الفكرة , و بعد صد و رد اقتنع واتفقا على اللقاء ثانية في نفس المكان الذي أعلن محرقة للزهور قبل قليل , ليبدأ التصوير من أرض تبقى عليها رماد زهور محترقة , لينتقلوا بعد ذلك عبر البيوت المدمرة والحارات التي امتلأت قذارة , فمضخات التخلص من المياه الآسنة متوقفة لعدم وجود كهرباء , ليصلوا أخيرا إلى بيته و منه إلى بيت جيرانه , رسمت لنفسها فيلما قد يهز بعض الضمائر الحية المتبقية على وجه الأرض , فيلم سينتهي بوردة يهديها رجل لمعشوقته وسط هذا الدمار المهول , اتفقا على اللقاء في السابعة مساء.
سمر مراسلة تلفزيونية منذ خمسة أعوام, تتحلى بشجاعة فائقة, تتنقل من مكان إلى آخر دون خوف من الطائرات التي لا تغيب عن سماء غزة, و هكذا كان اليوم, السماء مغطاة بطائرات F 16.
بعد مضي ساعة سمعت صوت انفجار لا يبعد عنها أكثر من كيلو متر واحد , سارعت مع المصور إلى مكان الانفجار , شقا طريقهما عبر الحارات الضيقة حتى وصلا إلى مصدر الصوت , بناء كامل دمر عن بكرة أبيه , قصفته طائرة أخرى , بدأت طواقم الإسعاف بانتشال جثث الشهداء و الجرحى من تحت الأنقاض , و كانت بين حين و آخر تحدث المذيع في الأستوديو عن مشاهد الدم التي غطت الأرض , أطفال , نساء ,كبار في السن , و عدسة المصور تنقل ذلك لهم , فتاة في العشرين من عمرها انهارت بكاء , اقتربت منها سمر
(( من استشهد لك , ابنك , زوجك ؟))
لم تجبها الفتاة و استمرت بالبكاء و ندب حظها, اقترب من الفتاة رجل ستيني وقال لها :
(( امشي يا ابنتي , امشي يا بيسان , لا بد من تحضير مراسم الدفن لوالدتك و أخيك الصغير , هيا ))
إنها عروس اليوم , إنها حبيبة يحيى , استشهدت أمها و أختها , مالذي حصل ليحيى أين هو ؟ ))
فجأة , توقف المصور عن التقاط الصور و قال لسمر :
(( ها هو يحيى, إنهم يخرجونه من بين الأنقاض ))
نظرت سمر إلى رجلين يخرجان يحيى من تحت الأنقاض , تهشم جسده ولكن وجهه مازال منيرا مبتسما , سقطت من تحت قميصه تلك الوردة الحمراء التي خطفها صباحا , تشربت بدمائه , أصبحت حمراء قانية , اقتربت منه , كما لو كان حيا , كما لو كان يخبرها أنا اليوم عريس حقيقي ( أنا فرح يا سمر , دعي العالم أجمع يشاهد عرسي , لقد استشهدت ) .
أخذت سمر الوردة الحمراء من بين الأقدام , بحثت عن بيسان , كان والدها يحاول أخذها بعيدا , و لكنها كانت لا تزال تبكي , توجهت نحوها , اقتربت منها وقالت لها
(( هذه الوردة كان يحيى ينوي إهداءها لك اليوم ))
هزت بيسان رأسها بألم شديد وقالت
(( لقد قطفوا اليوم قلبي, قتلوا أمي, قتلوا أخي ذا الأشهر الثلاثة, قتلوا من كنت سأكون شريكة عمره, لم يتبق في صدري مكان للورود ))
رن هاتف سمر, استمعت لمحدثها و أخذت تسجل بعض الملاحظات, ثم ختمت حديثها وبدأت بقراءة ما دونته على الورقة موجهة حديثها لعدسة الكاميرا قائلة:
(( وردنا الآن أن قوات الاحتلال قامت باستهداف المقاوم يحيى منصور من كتائب المقاومة وهي تأسف ( على حد زعمها ) لوقوع ضحايا مدنيين اثر القصف )).
أنهت سمر تقريرها المتلفز , وأخذت تراقب الوجوه الباكية و القلوب المتألمة , هنا أشلاء لطفل , هناك يد لامرأة , مشهد يصعب و صفه لذلك تركت للمصور أن ينقل بكاميرته تلك الصورة البشعة و المؤلمة , وضعت وردة يحيى الحمراء في حقيبتها لتحتفظ بها كذكرى على فرح لم ترغب قنابل الحقد له أن يتم.
مر شهر و صورة يحي و بيسان لا تغيب عن وجهها, صور الأطفال ينتشلون من تحت الركام, وضعت وردة يحي في كأس صغيرة , لم تعد الوردة قادرة على الحياة , فأخرجتها من الكأس و و ضعتها بين وريقات دفتر صغير تدون عليه ملاحظاتها , على الصفحة ذاتها التي دونت عليها خبر استشهاد يحيى ,كانت تطمئن إليها بين حين و آخر فتتذكر يحيى و بيسان و الأطفال الرضع الذين طاروا إلى السماء لينضموا إلى عصافير الجنة الذين سبقوهم , و بينما هي وسط هذا الهياج , جاءها اتصال هاتفي يبلغها بوقوع انفجار كبير في "تل الربيع " أو "تل أبيب " كما يسميه ( الإسرائيليون ) , وكونها صحفية تمكنت من الانتقال إلى موقع الانفجار , وصلت إلى هناك , الأنباء تتحدث عن استشهادي فجر نفسه بين مجموعة من المستوطنين , توجهت بالسؤال للمسؤول الأمني ( الإسرائيلي ) قال لها انه ( انتحاري إرهابي ) , ثم استمعت بعد ذلك إلى الناطق باسم الجيش يذيع بيانا صحفيا أمام وسائل الإعلام قال فيه:
يبدو أن الإرهابي امرأة .
بعد ساعة أعلنت إحدى كتائب المقاومة اسم الاستشهادية , إنها بيسان , بيسان لم تقبل إلا أن تكون عروسا لحبيبها الذي سبقها إلى الحفل الكبير .
مر أسبوع قبل أن تسلم سلطات الاحتلال جثمانها لذويها في غزة , سارعت سمر لنقل الجنازة , كان وجه بيسان نقيا مضيئا , شق طريقه نحو السماء, بعينيها المغمضتين رأت أحبتها ( أنا آتية يا أمي , جهزي لي ثوب الزفاف , وليكن أخي الصغير حاضرا فرحي , أبي اشتاق لك كثيرا , انه يهديك السلام , لقد ضاع بعد رحيلك , انه لا يكلم أحدا , أظنه سيلحق بنا عما قريب, لقد سمعته مرة يقول أنا ذاهب لأم العيال ) كانت بيسان فرحة , ستلقى أحبتها , كانت عروسا تزف إلى عريسها , أخرجت سمر الوردة الحمراء من حقيبتها و وضعتها على صدر بيسان , ثم التفت إلى الكاميرا و قالت :
((هنا فقط , تختلط الأعراس بالمآتم , الورود بالدماء , كل يوم نرى عرسا جديدا لشهيد أو شهيدة , فألف ألف مبروك عرسكما يحيى و بيسان , الأرض تزغرد فرحا فها هي تضم في أحشائها بطلين من أبنائها الحقيقيين , السماء تبكي فرحا لهذا العرس الكبير و تبكي ألما من قذارة غطت نضارة زرقتها بطائرات تشق عبابها ليل نهار , من هنا , من غزة , ومن تحت هذه الأمطار أودعكم على أمل اللقاء بكم في عرس التحرير , تحرير آخر شبر من كل أرض عربية محتلة )).