السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لأنني خصصت هذا المنتدى لمخيم عين الحلوة
كان لا بد لي ان اتوقف ولو ببضعة سطور عن
مأساة شعب كان ولا يزال يضحي لأجل حلم العودة
فأين هي العودة ؟؟ حلم أم سراب ؟؟؟.....
الداخل إليه مفقود والخارج مولود
مخيم عين الحلوة .. أحلام بعض سكانه لا تتجاوز "حبة البطاطا"
مهلاً أيها الزائر الكريم، فقبل أن تهمّ بالدخول الى مخيم عين الحلوة، الواقع في الجنوب اللبناني بمحاذاة مدينة صيدا، عليك أن تتهيأ لما أخفته عنك عدسات الكاميرا، ووسائل الإعلام كافة.
إذا كنت تقود سيارتك فيجب عليك ألا تنسى إحضار أوراقك الثبوتية، زجاجة ماء مثلجة ومناديل لتمسح بها العرق الذي سينهمر على جبينك كالسيل جرّاء الانتظار طويلاً في طابور السيارات على مدخل المخيم إلى أن يأتي دورك، وتخضع أنت وسيارتك للتفتيش والأسئلة، وإذا ذهبت مترجلاً فهذا لا يعني أنك ستمضي في حال سبيلك، قبل أن تُفتَّش عبر الأجهزه الكاشفة للممنوعات، هذا إن كانت جنسيتك فلسطينية أو لبنانية، أما إن كنت أجنبياً، فالأمر يحتاج عمليات معقدة، لأنك مجبر على أخذ تصريح دخول من الأجهزه اللبنانية، بعد أن تدلي بأسباب الزيارة وغرضك منها، لأنك داخل الى جزيرة أمنية، حسب ما يُروج في سوق الإعلام العربي الذي لم يخبرك عن حال هذه البقعة الجغرافية البالغة أقل من كيلومتر واحدٍ، والحاملة في أزقتها ما يزيد على 75 ألف نسمة، أكثر من الاشكالات الأمنية والاشتباكات بين الفصائل والأصوليين.
ينتهي التوتر الأمني، وتغيب صورة المخيم عن الواجهة الإعلامية، ليتحول الى منفى خارج عن حدود الزمن، على ساكنيه أن يعتادوا الحصار ويستتروا خلف أحزانهم وقهرهم الى أن تأتي رحمة الله.
مررت بنقطة التفتيش وكم ذهلت من هذا المشهد الذي يهتك بخصوصية المخيم، لكن الأشد مرارة من هذا كله هو الواقع المأساوي، والفقر المتفشي في نسيج اللاجئين كأنه سرطان يزداد ورمه يوماً بعد يوم. وليس في الأمر ما هو أشد سخطاً من حال مضيفتي السيدة ليلى برجي في زيارتي الأولى لها.
حياة "الباطون"
هناك على ضفة المخيم حيث اكتظاظ البيوت وانسياب مياه الصرف الصحي على الطرقات كان بيتها، وكانت غرفة الاستقبال التي جلسنا فيها جميعاً، أنا وليلى وستة أولاد ووالدتها وزوجها أحمد عبدالكريم، الذي يعمل مياوماً في ورش البناء وصب الباطون، والمعروف أن هذه الأعمال تختلف عن بقية الوظائف، إذ ليس للعامل معاش شهري، لأنه يعمل بشكل يومي ومتقطع فيجني كل يوم بيومه، ليعادل يوم العمل حوالي 20 ألف ليرة لبنانية أي 13 دولاراً أمريكياً. وتتراوح أيام عمله ما بين يومين وثلاثة بالأسبوع، وفي فصل الخريف والشتاء لا يعمل أبداً، لأن مثل هذه الأعمال لا تناسبها الرطوبة والأمطار.
بدت معالم العدمية واضحة على هذه العائلة، فلا أثاث يذكر في المكان، ولم يكن هناك ولا كنبة واحدة لاستقبال الضيوف، سوى بعض الكراسي البلاستيكية، وفرشة رثّة قديمه تغطيها أوراق الجدران المتهاوية من التآكل ونش المياه. سألتها عن عدد الغرف لأفاجأ بأن الغرفة التي تستقبلني بها هي غرفة النوم والضيوف والأكل والمطبخ أيضاً، لأن ليلى تطبخ على غازٍ صغير يستعمل لغلي القهوة في المكاتب والرحلات الصيفية. ناهيك عن النوافذ المكسرة التي تسمح بدخول الجرذان والحشرات الزاحفة، والسيدة ليس بمقدورها إجراء الإصلاحات على المنزل على اعتبار أن أولويتها هي تأمين الحليب لطفلتها، وإيجار المنزل البالغ 100 دولار، فهي تصف ما تعانيه من خجل وإذلال حينما يطرق بابها صاحب المنزل ليطالبها بإيجارات البيت المتراكمة بـ"البهدلة"، وتشير الى أن الإيجار الشهري للمنزل هو 100 دولار أمريكي.
ضيق المكان يجبر الأولاد على النوم مع والديهم في ذات الغرفة، وحينما سألتها عن أعمارهم أخذت تشير لي بإصبعها على كل واحد، كان أكبرهم 16 عاماً، يليه ابن الـ14، نزولاً الى ابن السادسة والثلاث سنوات، وأنهت بالرضيعة التي تحتضنها ثم ابتلعت غصتها وهي تخبرني بأن الصغير قد مات منذ أشهر عدة.
لم أقمع فضولي في الاستفسار حول كيفية وفاته، ليتبين أن الطفل كان رضيعاً في عمر أربعة أشهر، وكان يحتاج الى عمليه طارئة (فتاق)، لا تحتمل المماطلة، وكانت تكلفتها تساوي تقريباً 686 دولاراً أمريكياً، لكن ضيق الحال وعدم حصول الوالدين على اي مصدر مساعد، ادى الى رفض مستشفى غسان حمود الطبي الواقع في مدينة صيدا علاج الطفل قبل الدفع النقدي ما حال دون إجراء العملية الجراحية ومن ثم إلى وفاة الطفل بثمن بخس، فهل من اجحاف اكثر من هذا؟
أما الرضيعة التي بين أيديها فهي حتى الآن لم تحصل على تذكرة ثبوتية (هوية) لأن ثمنها لم يؤمن حتى الساعة.
وهل من مهزلة اكثر من تلك التي تمارسها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، التي تمارس سياسة تقليص الخدمات، والتي ايضاً ما عادت محجوبة، فكل بيت فلسطيني زرته حصلت منه على التعليق والاستياء نفسهما. غير ان ما يزيد الأمر تعقيداً على السيدة ليلى هو أنها لبنانية الجنسية، فتقول: "أنا آكلتها من الجهتين".
فوكالة الأونروا ترفض علاج السيدة لأنها تحمل الجنسية اللبنانية، والعرف السائد في الشرق الأوسط ان الزوجة تنقل الى ملف زوجها وتتمتع بذات الخدمات، لكنها الأونروا التي تجحف بحق الفلسطينيين انفسهم ماذا عن حاملي الجنسيات الاخرى؟
وفي المقلب الآخر أيضاً فإن ليلى المسكينة ممنوعة من تلقي العلاج في دوائر الصحة الحكومية التي تقدم خدماتها للمواطنين اللبنانيين، على قاعدة ان زوجها فلسطيني والأنروا أولى بعلاجها.
وأكثر ما في الأمر استغلالاً للحاجة والعوز انها لجأت للبحث عن المساعدة في إحدى المؤسسات التابعة لعائلة قيادية ولها شأنها في مدينة صيدا، لكنهم أوصدوا الباب بوجهها بحجة انها لا تقترع لفريقهم السياسي في الانتخابات النيابية، ما يعني أن امامها خيار من اثنين او تموت مرضاً كرضيعها، أو تحصل على المال للعلاج بأي طريقة كانت، وهي التي تعاني من أمراض جمة في جهازها العظمي وتحديداً (الروماتيزم) نتيجة للرطوبة العالية، والبيئة القذرة التي تحيط بمكان سكنها.
والذلّ الأعمق من ذلك، هو ما واجهها في مستشفى (الهمشري) وهو مستشفى تابع للهلال الأحمر الفلسطيني بجوار مخيم عين الحلوة، يُعنى بالحالات الطبية التي تحال إليه من عيادات الأونروا، ومن لا يملك تحويلاً صادراً عن عيادات الأونروا يصبح علاجه على نفقته الشخصية.
جوع وفقر
تذكر ليلى أنها دخلت المستشفى في حالة طارئة واستدعت الطبيبة (انتصار) وهي موظفة في الأونروا لتصدر لها تحويلاً كي تُعالج على نفقة الاونروا، غير أن الطبيبة رفضت إعطاءها التحويل الطبي قالبةً المعادلة رأساً على عقب: "أنت لبنانية وأنت لست تابعة لزوجك إنما هو من يتبعك"، فحوصرت السيدة بالمستشفى لأنها لم تسدد التكاليف، مادفع المريضة الى استعطاف مسؤول المستشفى الذي أخبرته بأنها أمضت أيامها الثلاثة دونما وجبة تسد جوعها، ما أثار شفقته عليها وعلى أولادها، وأعطاها إذناً بالخروج من المستشفى دون ان تدفع. لكنها تقول: "مش كل مرة بتسلم الجره"، في وقت تحتاج فيه الى إجراء فحوص مخبرية لرأسها وقلبها ومازالت تماطل بسبب عجزها المادي.
وبعد، لم تنحصر مصيبة الوالدة بموت الرضيع، إنما تجاوزته الى توقف الأولاد عن المدرسة، لأن كونهم يتلقون تعليمهم في مدارس الأونروا التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، لا يعني أنهم لا يحتاجون لشراء القرطاسية بشكل دائم، وأخذ مصروفهم اليومي، وشراء الزي المدرسي لكل منهم، الأمر الذي تعجز العائلة عجزاً تاماً عن توفيره لهم. وتضيف الوالدة الى ان تقدير الأساتذة للأولاد لا يقل عن الجيد. وأمنيتها الوحيدة لو تتاح الظروف لتعليم اولادها جميعاً، وامتلاك مأوى كي لا يطرق صاحب الملك بابها كل يوم.
الفقر يستشري بأنحاء العائلة كلها، فالزوج ليس له اقارب وهو غير منظم حزبياً وبالتالي فإنه ممنوع من الخدمات التي تقدمها منظمة التحرير لأعضائها، والزوجة فقدت عائلتها في الحرب لتبقى والدتها وشقيقتيها وليكون نصيبها ان تحتضن امها المسنة والمريضة في ذات الجحيم الذي تعيش فيه لأنه ليس من جحيمٍ أفضل.
انتهت ليلى من تقطيع حبتين بطاطا كانت تقشرهما عندما دخلت عليها، وعرفت لاحقاً انها تحضرهما كوجبة غداءٍ للأولاد، فأي منطق وأي عدل اجتماعي يقبل بأن تكون وجبة غداء لتسعة اشخاص عبارة عن حبيتين من البطاطا والقليل من البيض؟
والأبشع من هذا كله أن العائلة تستقبل شهر رمضان بمنزل خالٍ حتى من الخضار، وفي وقت ينتظر الكثير من الناس الصدقات الرمضانية، فإن هذه العائلة محرومة نعيم الطعام، ويوم العيد يجلس الأبناء على عتبة المنزل ليرمقوا عملية شواء اللحم التي اعتادها الناس، وهم حتى اللحظة لم يتذوقوا طعمها، كما يسترقون النظر الى أقرانهم الذين يعيشون فرحة العيد بملابسهم الجديدة وألعابهم المتنوعة، بينما أولاد ليلى يرتدون اقدم الثياب.. ولا تتعدى يومياتهم أزقة الحي الحقير، لقد ولدوا في الحصار ومن يعلم قد يقضون عمرهم في الحصار ذاته.
وخلاصة القول: من نام منكم بلا رغيف فليرجم قائده بالحجر